غزة- حصار وتجويع الأطفال والنساء الحوامل جريمة حرب

منذ ما يزيد على شهرين، يرزح قطاع غزة تحت وطأة إغلاق مُحكم، حيث يواصل الاحتلال الإسرائيلي عرقلة تدفق المساعدات الضرورية إلى سكانه المنهكين. بهذا الإجراء القاسي، يُحرم أكثر من مليوني شخص من الحق في الحصول على مقومات البقاء الأساسية. بينما تمزق القنابل سماء القطاع وتدمر المنازل والبنى التحتية، يشتد الخناق على المعابر، ليجد السكان أنفسهم بين فكي كماشة: الموت المفاجئ بالقصف، والمجاعة الزاحفة التي تفتك بأجسادهم الضعيفة، ولا سيما الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات، في تجاوز سافر لكل القيم الإنسانية والقوانين الدولية.
غزة قبل الحرب: مستويات مقلقة لسوء التغذية
حتى قبل اندلاع الحرب الأخيرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كانت المؤشرات تنذر بالخطر، حيث كانت معدلات سوء التغذية مرتفعة بالفعل بين الأطفال والنساء الحوامل في غزة. فبناءً على تقارير الأمم المتحدة، وصلت نسبة سوء التغذية المزمن بين الأطفال دون سن الخامسة إلى حوالي 10% إلى 11%، بينما لا تتجاوز هذه النسبة 2% في دولة الاحتلال، و7% كمعدل عالمي.
كما بلغت نسبة الهزال الحاد بين الأطفال 0.8%، وهي نسبة أعلى من تلك المسجلة في دولة الاحتلال، والتي تبلغ 0.5%. أما بالنسبة لفقر الدم بين النساء الحوامل، فقد تجاوزت نسبته 35% في غزة، مقارنة بـ 14% في دولة الاحتلال. ورغم أن ما يقرب من 68% من الأسر كانت تعاني من انعدام الأمن الغذائي، إلا أن تدخلات المنظمات الدولية ساهمت جزئيًا في تلبية الاحتياجات الغذائية للأطفال والحوامل، خاصة من خلال برامج التغذية المدرسية. ومع ذلك، استمرت إسرائيل في فرض قيود مشددة على دخول المواد الغذائية، ولا سيما تلك التي تعتبر ضرورية لتغذية الأم والطفل.
أثناء الحرب: انهيار منظومة التغذية العلاجية
مع اندلاع الحرب، شهدت منظومة التغذية العلاجية والتكميلية في قطاع غزة انهيارًا كارثيًا وشاملاً. يكشف تقرير صادر عن مجموعة التغذية في غزة لشهر يناير/ كانون الثاني 2025 عن أرقام مفزعة: أكثر من 15% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من الهزال الحاد، في حين أن 90% منهم لا يحصلون على الحد الأدنى من التنوع الغذائي الضروري لنموهم. كما ارتفعت معدلات فقر الدم بين الأطفال بشكل حاد لتصل إلى 77%.
وفي ظل الإغلاق المحكم للمعابر ومنع دخول المساعدات، أظهرت بيانات الجهات الصحية في غزة أن أكثر من 70 ألف طفل قد أُدخلوا إلى المستشفيات بسبب سوء التغذية الحاد، وأن 60 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من نقص حاد في العناصر الغذائية الأساسية، دون أن يتمكنوا من الحصول على أي علاج أو رعاية طبية.
اليوم، يواجه الأطفال في غزة خطر الموت جوعًا بشكل حقيقي وملموس، حيث توفي منهم بالفعل ما يزيد عن 53 طفلًا بسبب الجوع. تشير التقديرات إلى أن عدد الأطفال الذين يعانون من الجوع المدقع يتجاوز 1.1 مليون طفل.
بالإضافة إلى ذلك، تشير الإحصائيات الحديثة إلى أن ما لا يقل عن 18000 طفل قد استشهدوا منذ بداية العدوان، من بينهم مئات الأطفال الرضع. كما استشهدت أيضًا أكثر من 830 امرأة حامل ومرضع، إما نتيجة للقصف المباشر أو بسبب النقص الحاد في الرعاية الصحية والغذائية الضرورية.
أما بالنسبة للنساء الحوامل والمرضعات اللاتي ما زلن على قيد الحياة، فقد وصل عددهن إلى أكثر من 150 ألف امرأة يواجهن خطر الموت أو الولادة المبكرة أو الإجهاض، وذلك نتيجة لنقص المناعة وسوء التغذية الحاد. وقد سجلت زيادة مأساوية بنسبة 300% في حالات الإجهاض، كما بلغت نسبة التشوهات الخلقية في الأجنة 25%، وذلك نتيجة للتعرض للغازات السامة ونقص الغذاء والمكملات الغذائية الضرورية.
ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي يمنع دخول حليب الأطفال والمكملات الغذائية منذ أكثر من شهرين. تشير البيانات إلى أن العجز في الغذاء العلاجي المخصص للأطفال والحوامل والمرضعات يتجاوز 95%، في حين لا توجد أي شحنات أو تدخلات دولية ملموسة على الرغم من النداءات الإنسانية المتكررة والمستمرة. هذا الواقع المرير يجعل كل محاولة لإنقاذ الأطفال وحديثي الولادة بلا جدوى، وذلك في ظل النقص الحاد في الحليب المخصص لهم، وعدم توفر أي وسيلة للكشف المبكر عن حالات سوء التغذية أو التشوهات الخلقية في الأجنة.
التجويع انتهاك صارخ للقانون الدولي
يمثل هذا الوضع المأساوي انتهاكًا صارخًا وواضحًا للمعايير الإنسانية الدولية، وعلى رأسها اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، واتفاقيات جنيف التي تحظر استخدام التجويع كسلاح حرب، واتفاقية حقوق الطفل التي تؤكد على حق كل طفل في الحصول على الغذاء والرعاية الصحية الكافية. كما أن هذا الحصار المفروض على غزة يشكل خرقًا للمادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تضمن حق كل إنسان في الحصول على الغذاء الكافي والصحة الجيدة، وخاصة النساء الحوامل والمرضعات والأطفال.
عواقب وخيمة وطويلة الأمد تهدد مستقبل الأجيال
إن الجوع في غزة لا يقتل الأطفال والنساء فحسب، بل يترك آثارًا مدمرة بعيدة المدى على مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة. فالأطفال الذين ينجون من هذه المجاعة المروعة سيعانون من تأخر في النمو الجسدي والعقلي، وانتشار التقزم وفقر الدم. إن غياب التغذية السليمة في المراحل المبكرة من حياة الطفل يقوض قدراته المستقبلية ويخلق فجوة تنموية لا يمكن تعويضها. أما النساء الحوامل اللواتي يُحرمن من الغذاء والمكملات الغذائية الضرورية، فسوف يلدن أجيالًا ضعيفة صحيًا وجسديًا، مع ارتفاع نسبة التشوهات الخلقية في الأجنة والولادة المبكرة والإجهاض.
ما الذي يمكن فعله الآن لإنقاذ الأرواح؟
أمام هذه المأساة الإنسانية المروعة، هناك خطوات عاجلة يجب اتخاذها على الفور لإنقاذ ما يمكن إنقاذه:
- على الصعيد الدولي: يقع على عاتق الأمم المتحدة تأمين ممر إنساني دائم وآمن لإدخال المساعدات الضرورية إلى غزة. كما يجب على منظمة التعاون الإسلامي قيادة تحرك قانوني جماعي لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. يجب على جامعة الدول العربية إنشاء صندوق طارئ لدعم التغذية وتوفير الغذاء للأطفال والنساء. يجب على مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية محاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جريمة تجويع الأطفال والنساء.
- على الصعيد الإسعافي: يجب تشغيل المطابخ المجتمعية لتوفير وجبات غذائية للأطفال والحوامل. توزيع الحليب والمكملات الغذائية المتوفرة على الأطفال والحوامل والمرضعات. تفعيل الزراعة المنزلية لتوفير بعض الغذاء الطازج. توزيع ما تبقى من الموارد المتاحة بإشراف صحي دقيق لضمان وصولها إلى المحتاجين.
- على الصعيد الإغاثي: يجب تجهيز شحنات غذائية عاجلة تتضمن حليب الأطفال، وأغذية علاجية جاهزة، ومكملات غذائية للحوامل والمرضعات. يجب إرسال عيادات متنقلة لتوفير الرعاية الصحية والتغذوية العاجلة للمحتاجين.
- على الصعيد الإنعاشي: يجب إعداد خطة إنقاذ وطنية شاملة لإعادة بناء منظومة الغذاء في غزة، بدءًا من دعم الزراعة المستدامة وصولًا إلى دعم المخابز المحلية. يجب توفير الغذاء المدرسي والتطعيمات والمكملات الغذائية للأطفال لضمان نموهم الصحي.
في غزة، الجوع يفتك بالأطفال والحوامل والمرضعات أمام أعين العالم أجمع. هذه ليست مجرد أزمة غذاء عابرة، بل هي جريمة مكتملة الأركان تُرتكب بصمت وتواطؤ. لا بد من تحرك عاجل وفوري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح البريئة. فكل تأخير إضافي يعني موتًا جديدًا لطفل بريء، أو أم حملت حلم الحياة بين أحشائها ولم تجد من يمنحها غذاء البقاء للبقاء على قيد الحياة.